فصل: تفسير الآيات (21- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (21- 31):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} أي ادعوا السماع وهم المنافقون وأهل الكتاب {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين، والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. ثم قال: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي إن شر من يدب على وجه الأرض البهائم، وإن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم وكابروا بعد العقل {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ} في هؤلاء الصم والبكم {خَيْرًا} صدقاً ورغبة {لأسْمَعَهُمْ} لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} عنه أي ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا {وَهُم مُّعْرِضُونَ} عن الإيمان. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} وحد الضمير أيضاً كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض {لِمَا يُحْيِيكُمْ} من علوم الديانات والشرائع لأن العلم حياة كما أن الجهل موت قال الشاعر:
لا تعجبنّ الجهول حلته ** فذاك ميت وثوبه كفن

أو لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، أو للشهادة لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} [آل عمران: 169] {واعلموا أَنَّ الله يحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} أي يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، أو بينه وبين ما تمناه بقلبه من طول الحياة فيفسخ عزائمه {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} واعلموا أنكم إليه تحشرون فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة {واتقوا فِتْنَةً} عذاباً {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} هو جواب للأمر أي إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم، وجاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر لأن فيه معنى النهي كما إذا قلت (انزل عن الدابة لا تطرحك) وجاز (لا تطرحنك). و{من} في {مّنكُمْ} للتبعيض {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} إذا عاقب.
{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} {إذ} مفعول به لا ظرف أي واذكروا وقت كونكم أقلة أذلة {مُّسْتَضْعَفُونَ في الأرض} أرض مكة قبل الهجرة: يستضعفكم قريش {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} لأن الناس كانوا لهم أعداء مضادين {فأواكم} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله} بأن تعطلوا فرائضه {والرسول} بأن لا تستنوا به {وَتَخُونُواْ} جزم عطف على {لاَ تَخُونُواْ} أي ولا تخونوا {أماناتكم} فيما بينكم بأن لا تحفظوها {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} تبعه ذلك ووباله، أو وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو، أو وأنتم علماء تعلمون حسن الحسن وقبح القبيح، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الإيفاء التمام، ومنه تخوّنه إذا انتقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه {واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم والعذاب، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فعليكم أن تحرصوا على طلب ذلك وتزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد {ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} نصراً لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم (سطع الفرقان) أي طلع الفجر، أو مخرجاً من الشبهات وشرحاً للصدور، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة {وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي الصغائر {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم أي الكبائر {والله ذُو الفضل العظيم} على عباده.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} لما فتح الله عليه ذكّره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم. والمعنى واذكر إذ يمكرون بك، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار فرقوا أن يتفاقم أمره فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً. فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال اللعين: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له الله في الهجرة، فأمر علياً فنام في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتفوا أثره فأبطل الله مكرهم {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك ويوثقوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} بسيوفهم {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة {وَيَمْكُرُونَ} ويخفون المكايد له {وَيَمْكُرُ الله} ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة {والله خَيْرُ الماكرين} أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً.
كان عليه السلام يقرأ القرآن ويذكر أخبار القرون الماضي في قراءته فقال النضر بن الحارث: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأحاديث العجم فنزل {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي القرآن {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} وهذا صلف منهم ووقاحة، لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن فلم يأتوا به.

.تفسير الآيات (32- 42):

{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
{وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا} أي القرآن {هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} هذا اسم {كان} و{هو} فصل و{الحق} خبر {كان}. رُوي أن النضر لما قال: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «ويلك هذا كلام الله» فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} بنوع آخر من جنس العذاب الأليم فقتل يوم بدر صبراً. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله عليه السلام حين دعاهم إلى الحق {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم لأنك بعثت رحمة للعالمين وسنته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هو في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، أو معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين. {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} أي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم ألا يعذبهم الله {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من الصد وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقيل {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من المسلمين. وقيل: الضميران راجعان إلى الله {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند أو أردا بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً} صفيراً كصوت المكاء وهو طائر مليح الصوت، وهو فعال من مكا يمكوا إذا صفر {وَتَصْدِيَةً} وتصفيقاً تفعلة من الصدى، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه {فَذُوقُواْ العذاب} عذاب القتل والأسر يوم بدر {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم.
ونزل في المطعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبيل الله {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخر الأمر وهو من دلائل النبوة لأنه أخبر عنه قبل وقوعه فكان كما أخبر {والذين كَفَرُواْ} والكافرون منهم {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
واللام في {لِيَمِيزَ الله الخبيث} الفريق الخبيث من الكفار {مِنَ الطيب} أي من الفريق الطيب من المؤمنين، متعلقة ب {يُحْشَرُونَ} {ليميّز} حمزة وعلي {وَيَجْعَلَ الخبيث} الفريق الخبيث {بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} فيجمعه {فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ} أي الفريق الخبيث {أولئك} إشارة إلى الفريق الخبيث {هُمُ الخاسرون} أنفسهم وأموالهم.
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي أبي سفيان وأصحابه {إِن يَنتَهُواْ} عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِن يَعُودُواْ} لقتاله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى، أو معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} ويضمحل عنهم كل دين باطل ويبقى فيهم دين الإسلام وحده {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر وأسلموا {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يثيبهم على إسلامهم {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته {نِعْمَ المولى} لا يضيع من تولاه {وَنِعْمَ النصير} لا يغلب من نصره. والمخصوص بالمدح محذوف.
{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} {ما} بمعنى {الذي}، ولا يجوز أن يكتب إلا مفصولاً إذ لو كتب موصولاً لوجب أن تكون {ما} كافة و{غَنِمْتُمْ} صلته والعائد محذوف والتقدير: الذي غنمتموه {مِّن شَئ} بيانه قيل حتى الخيط والمخيط {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} والفاء إنما دخلت لما في {الذي} من معنى المجازاة و{أن} وما عملت فيه في موضع رفع على أنه خبر مبدأ تقديره: فالحكم أن لله خمسة {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فالخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، وسهم لذي قرابته من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة لقصة عثمان وجبير بن مطعم، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة: لله والرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة، وكذا عمر ومن بعده من الخلفاء رضي الله عنهم، ومعنى {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لرسول الله كقوله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله} فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على {بالله} أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل {على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} يوم بدر {يَوْمَ التقى الجمعان} الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وهو بدل من {يَوْمَ الفرقان} {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدر على أن ينصر القليل على الكثير كما فعل بكم يوم بدر. {إِذْ أَنتُم} بدل من {يَوْمَ الفرقان} والتقدير: اذكروا إذ أنتم {بِالْعُدْوَةِ} شط الوادي، وبالكسر فيهما: مكي وأبو عمرو {الدنيا} القربى إلى جهة المدينة تأنيث الأدنى {وَهُم بالعدوة القصوى} البعدى عن المدينة تأنيث الأقصى، وكلتاهما فعلى من بنات الواو، والقياس قلب الواو ياء كالعليا تأنيث الأعلى، وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل {والركب} أي العير وهو جمع راكب في المعنى {أَسْفَلَ مِنكُمْ} نصب على الظرف أي مكاناً أسفل من مكانكم يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال، وهو مرفوع المحل لأنه خبر المبتدأ {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له {ولكن} جمع بينكم بلا ميعاد {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} من إعزاز دينه وإعلاء كلمته، أو اللام تتعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: القضاء يحتمل الحكم أي ليحكم ما قد علم أنه يكون كائناً، أو ليتم أمراً كان قد أراده، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة وهو عز الإسلام وأهله وذل الكفر وحزبه ويتعلق ب {يَقْضِى} {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} {حيي} نافع وأبو عمرو، فالإدغام لالتقاء المثلين، والإظهار لأن حركة الثاني غير لازمة، لأنك تقول في المستقبل (يحيا) والإدغام أكثر.
استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب بل بالله تعالى، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكان العيروراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة المسلمين وضعفهم ثم كان ما كان {بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بكفر من كفر وعقابه وبإيمان من آمن وثوابه.